صلاح رشاد .. يكتب: عندما قاد «الرشيد» جيشا .. للإنتقام من رافع بن الليث
مرت السنوات بعد نكبة البرامكة سريعا، وانقضت 6 سنوات مات خلالها في السجن يحيي بن خالد البرمكي عميد الأسرة وشيخها وهو في السبعين من عمره، ثم ولده الأكبر الفضل الذي كان معه في السجن، وكان الفضل شديد البر بأبيه.
وكان يحيي يشتكي من الماء في برد الشتاء فيضع الفضل إبريق المياه علي بطنه لبعض الوقت علي أمل أن يكسر برودة المياه لأبيه ليستطيع الوضوء والشرب (البرامكة الذين كانوا يتقلبون في النعيم ظهرا لبطن، والدنيا في ايديهم وصل بهم الحال ان يعجزوا عن استعمال ماء يناسب صحتهم في برد الشتاء..ما أهونك يادنيا!).
وفي أوائل عام 193 هجريا مات الفضل بن يحيي وهو في الخامسة والأربعين من عمره، وكما قلنا قبل ذلك كان في سن الرشيد وكان أخا له في الرضاعة، وعندما علم الرشيد، قال: أمري من أمره قريب، وتسلل المرض والتعب والمعاناة إلي جسد هارون الرشيد، ورغم أنه لم يكن قد تجاوز الخامسة والأربعين من عمره إلا أن الأحداث الجسام نالت من جسده وبدا وكأنه شيخ تجاوز الستين.
ومن الواضح أيضا أن أزمة ولاية العهد كانت تؤرقه بل تخيفه علي أولاده وأسرته والدولة العباسية بأسرها، كل هذه الأمور حالت بين الرشيد والعيش الرغيد الذي يخلو من المنغصات في أواخر عمره، وكان قراره بالذهاب علي رأس جيش جرار لإخماد فتنة رافع بن الليث في خراسان غريبا، فالرشيد ليس في شبابه الغض الذي يتحمل مشقة السفر والترحال من بغداد إلي خراسان حتي لو توافرت له كل وسائل الراحة، لأنه كان مريضا وهذه الرحلة الشاقة ستزيد مرضه وعلته، لكنها أقدار الله النافذة التي لا مناص منها ولا مهرب، فمن كانت منيته بأرض فليس يموت في أرض سواها، ويجب أن يذهب إلي مدينة طوس (مدينة إيرانية كانت من أعظم مدن خراسان قديما) ليرحل عن الدنيا ويواري جسده التراب هناك ويترك الملك والجاه والسلطان.
كان الرشيد يخفي علته عن أقرب المقربين إليه ويربط علي بطنه برباط من حرير، ،ويقول: كل ولد من أولادي له علي رقيب وقد استطالوا أيامي وتمنوا موتي، وهذه أيضا من مصائب الملك والسلطان، أن الولد قد يتعجل موت أبيه ليرث عرشه وسلطانه، ويذكرنا هذا بما قاله الخليفة الأموي عبدالملك بن مروان عندما دخل عليه ابنه الوليد في مرض موته، فقال عبد الملك: وعائد رجلا وليس يعوده إلا لينظر أن يراه يموت.
وكان رافع بن الليث حفيد نصر بن سيار آخر وال أموي في خراسان، قد خرج علي الدولة العباسية في خراسان واستفحل أمره، وقتل عامل الرشيد علي سمرقند واستولي عليها وكسر أكثر من جيش للعباسيين في خراسان، فصمم الرشيد علي أن يخرج إليه بنفسه ويقتله شر قتلة، واشتد غضب الرشيد علي رافع وأهل بيته وعندما وقع أخ لرافع في الأسر أمر الرشيد جزارا بأن يقطع لحمه كالذبيحة وأن يسلخ وجهه !!
وزادت علة الرشيد في تلك الرحلة الشاقة، وكان قد أوصي حاجبه ووزيره الفضل بن الربيع بأنه إذا نزل به الموت أن يكمل مسيره إلي مدينة مرو (تقع حاليا في دولة تركمانستان)، حيث يعيش عبد الله المأمون هناك وقتها، ليكون الجيش بكل ما في حوزته من عتاد وأموال في قبضة المأمون.
ثم فوجئ الرشيد بقدوم بكر بن المعتمر من بغداد وفقا لما جاء في تاريخ الطبري، وكان محمد الأمين عندما علم بعلة أبيه وأنه قريب من الموت أرسل بكرا ومعه رسائل لكل كبار القادة والرؤساء الذين مع أبيه الرشيد ووضع هذه الرسائل في صناديق أخفاها في جلود البقر، وأمر الأمين بكرا ألا يطلع الرسائل علي أحد حتي أمير المؤمنين الرشيد ولو عرضه ذلك للقتل، ولا يظهرها إلا عند موت الخليفة !
(الأمين ينتظر موت أبيه ليملك الجاه والسلطان ويناديه الناس باللقب الفخيم أمير المؤمنين).
وعندما سأل الرشيد بكرا عن سبب قدومه، قال: جئت بأمر ولي العهد لأطمئن علي صحة أمير المؤمنين، طبعا ليس الأمين ذلك الفتي الأرعن العابث الذي يخدع أباه الرشيد، وعلم الرشيد أن وراء قدوم بكر شيئاً مريباً فأمر الفضل بسجن بكر بن المعتمر والتضييق عليه واستخدام كل الوسائل لمعرفة سبب قدومه حتي لو الأمر إلي قتله، لكن اشتداد العلة بالرشيد جعله يتشاغل عن بكر ويطلب من قادته وكبار الرؤساء الذين معه أن يجددوا البيعة للمأمون بعد الأمين.
وأوصي الفضل إذا وقع به الموت أن يذهب بالجيش وكل ما في حوزته من عتاد وأموال إلي عبد الله المأمون الذي كان يعيش وقتها كما قلنا في مدينة مرو بتركمانستان.
فماذا فعل الفضل بوصية الرشيد .. هل التزم بها ونفذها أم ضرب بها عرض الحائط ؟
نجيب في الحلقة المقبلة إن شاء الله .